بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين . وبعد:-
فمن المعروف أن علم الكلام يبحث عن العقائد الإسلامية من ناحيتين إحداهما: التعريف بالعقائد. والأخرى: إقامة الأدلة على حقيقتها ووجوب التدين بها. ولكل من التعريف بالعقائد أو إثباتها أهمية كبيرة تعتبر أصلاً في هذا الدين . فالمراد بالعقيدة كل ما يتدين به الإنسان ويعتقده حقاً من قول أو عمل. ومهمة المتكلم هي الدفاع عن الدين بحماية أصوله وأحكامه وما يمتاز به من قيم ومشخصات. ولا شك أن هذه المهمة هي أشرف الغايات وأهمها، وأن هذه الأهمية ترجع إلى الشخص في نفسه وفي نفع غيره وفي حماية أصول الدين وفروعه ويمكن إرجاع أهمية علم الكلام وفوائده فيما يلي:
أولاً : أهميته بالنظر إلى الشخص في قوته النظرية. وهي الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان. يقول تعالى : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "( )، أما في قوته العقائدية فغايته تحلية الإيمان بالإيقان بأن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقناً محكماً لا تزلزله شبه المبطلين( ). ولعل تحصين عقائد المسلم بهذا العلم في غاية من الأهمية خاصة في هذا الزمان الصعب الذي تكثر فيه الانحرافات والدعوات الباطلة( ). وذلك أن للقوة العلمية للعقيدة الإسلامية وبقية العلوم الشرعية أثرها الكبير في تمسك الناس بدينهم وثباتهم عليه.
ثانياً: أهميته بالنظر إلى تكميل الغير. وهو إرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة لهم إلى عقائد الدين، وإلزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم( ). هذا ما عبر عنه حجة الإسلام الغزالي بقوله: "والأصل في ذلك أن إزالة الشكوك في أصول العقائد واجبة. واعتوار الشك غير مستحيل ثم الدعوة إلى الحق بالبرهان مهمة في الدين، ولا يمكن ذلك إلا بهذا العلم. فلا بد وأن يكون هناك قائمون على هذا العلم، يقاومون دعاة المبتدعة، ويستميلون المائل عن الحق، ويصفون قلوب أهل السنة عن عوارض الشبهة" ( ).
ثالثاً : أهميته بالنسبة إلى أصول الإسلام. وهي حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين( ). والأصل في ذلك أنه لا يخلو زمان عن وجود مبتدع أو معاند يتصدى لإغواء أهل الحق بإفاضة الشبهة فيهم. فلا بد ممن يقاوم شبهه بالكشف وإغواءه بالتقبيح ولا يمكن ذلك إلا بهذا العلم( ). خاصة في زماننا الذي تكثر فيه هذه الشبه المغرضة والدعاوى المنحرفة التي تقصد صد المؤمنين عن دينهم والتي يتصدى لنشرها التيار اللاديني أو العلماني وبأساليب مخادعة تحتاج في الكشف عنها وإبطالها إلى متكلم حقيقي متقن لهذا العلم بالمفهوم الذي ذكرناه سابقاً( ).
رابعاً: أهميته بالنظر إلى فروع هذا الدين. فالعلوم الشرعية وما فيها من الأحكام الجزئية إنما تثبت وتتحقق بهذا العلم. والأصل في ذلك أن ثبوتها فرع ثبوت الحاكم والرسول، وهما إنما يثبتان بعلم الكلام. كما أن العقائد وأصول النظر التي تحكم العلوم المختلفة إنما تؤخذ من هذا العلم وعليه فإن جميع العلوم الشرعية تبنى على هذا العلم فهو أساسها وإليه يؤول أخذها واقتباسها( ).
خامساً : أهميته بالنسبة إلى الشخص في قوته العملية. وهو صحة النية في الأعمال وصحة الاعتقاد بقوته في الأحكام المتعلقة بالأفعال إذ بها، أي بهذه الصحة في النية والاعتقاد يرجى قبول العمل( ). ولا يمكن ذلك إلا باعتقاد العقيدة الحقة التي تثبت بهذا العلم خالية عن شوائب الفرق المبتدعة ومقولاتها الفاسدة.
وفي هذا المقام يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري( ) : "المسلم له قوتان: قوة في دينه وقوة في عقله. وبعد اقتناع المسلمين المتعلمين بعقيدة الإسلام اقتناعاً يتفق مع العقل والعلم الصحيحين يكونون مسلمين حقيقيين ويسهل لهم الحصول على ما يحتاجون إليه أيضاً من العمل بأحكام الشريعة الإسلامية. إذ العمل مبني على العقيدة التي لا يتعب بها الإنسان أصلاً بعد استيقانها لعقله وفهمه، بل يكون له منها قوة ينشرح بها صدره ويستعين بها على القيام بالناحية العملية التي ليست بسهلة في حد ذاتها سهولة الناحية الاعتقادية لانطوائها على تكاليف وتضحيات. وبانضمام العمل إلى العقيدة يحصل الكمال في الإسلام وينتفع المسلم العامل بدينه في الدنيا قبل أن ينتفع به في الآخرة.
والمسلمون في زماننا يتلاومون فيما بينهم بالتقصير في العمل عازين إليه تأخرهم المشهود مع أن تقصيرهم في العقيدة التي لا تقبل التقصير أصلاً أشد من تقصيرهم في العمل. وهو داؤهم الذي أصيب به الكثرة الساحقة من مثقفيهم، فعاقهم عن الصلاة والصيام وعاق حكومتهم عن العمل بقانون الإسلام… فهم خارجون على الإسلام نفسه من ناحية العقيدة أي ناحية الإيمان به الذي هو أساس العمل بأحكامه، ولهذا سهل عليهم التغيير في أحكامه العملية. ولهذا عنيت في كتابي هذا بالناحية الاعتقادية وصرفت كل جهدي في تثبيتها" ( ).
--------------------------------------------------------------------------------
احمد حلمي حرب23-06-2004, 00:27
أقوال العلماء في مشروعية علم الكلام
عرفت مما سبق أن غاية علم الكلام هي التوصل إلى إثبات العقائد الدينية بالأدلة القطعية؛ بمعنى أن الغاية من هذا العلم في أصلها ترجع إلى وجود الحاجة التي تقتضي الاشتغال بالعقائد الإيمانية من هذه الناحية. ولا شك أن هذه الحاجة لا تنفك عن كونها إما حاجة إيمانية أو حاجة دعوية أو حاجة علمية. والإسلام في حقيقته وما يتفرع عنه يقوم على هذه الأركان الثلاثة، فالعلم هو الأصل والإيمان لازم عنه مترتب عليه والدعوة وما يلزم عنها متفرعة عنهما.
لذلك كانت دعوة الأنبياء مقترنة بالأدلة الدالة على صدقهم وهي المعجزات، والدالة على حقية ما يقولون من الشواهد والبراهين التي تقوم على النظر والفكر والتدبر في أسرار الكون وعجائب الخلق، مع المجادلة وإفحام الخصوم. لذا كان القرآن الكريم مليء بالآيات التي تحمل في طياتها الأدلة التي لا تحصى ولا تكاد تنقضي والتي دورانها على إقامة الأدلة على ذلك. ويحكي لنا القرآن الكريم كثيراً من المجادلات التي كانت تدور بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم وما كانوا عليه من قوة المحاجة وإفحام الخصوم. بل إن الله تعالى قد حثنا على النظر في آيات كثيرة ورغبنا فيه وذم التقليد والمقلدين. هذا فضلاً عن أن القرآن يكاد يكون من أوله إلى آخره محاجة مع الكافرين ورداً على عبدة الأوثان والملحدين وبياناً للتوحيد والنبوة، وإذا استثنينا الآيات الواردة في الأحكام الشرعية التي تقل عن ستمائة آية وجدنا أن جميع القرآن في التوحيد والنبوة وإثبات أبواب العقائد كافة ومحاجة الكفار والمشركين وإشارة إلى طرق إلزام المعاندين حتى الآيات الواردة في القصص قصد بها معرفة حكمة الله تعالى وقدرته وضرورة الإذعان إلى سلطان ألوهيته.
ومن هنا فإن الحاجة إلى إثبات العقائد الإسلامية بإقامة الحجج ودفع شبه ومخالفات المعاندين أمر واجب موافق لطبيعة الإسلام ومبادئه ومحقق لغاياته كما سبق وعرفت. وبالتالي فإن الكلام عن الموقف من علم الكلام ومشروعيته ينبغي أن يكون كلاماً عنه من هذه الناحية. أما إن اسم البحث عن العقائد من هذه الناحية والعلم بها هو علم الكلام أو علم العقائد أو غيرهما فليس هذا معتبراً أساساً هنا.
ومن المعلوم أن علم الكلام بهذا المعنى كان موجوداً منذ عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم ولهذا نص الإمام التفتازاني على أن علم الصحابة بالعقائد من علم الكلام حيث قال: "ودخل علم علماء الصحابة بذلك فإنه كلام وإن لم يكن سمي في ذلك الزمان بهذا الاسم كما أن علمهم بالعمليات فقه وإن لم يكن هذا التدوين والترتيب" ( ). ولكن الفرق بين عهد الصحابة ومن بعدهم إجمالاً ظهور الفرق التي شوشت على المؤمنين عقائدهم وأفسدت عليهم وحدتهم وأثارت النزاع بينهم، مما جعل الحاجة للاهتمام بالعقائد من هذه الناحية أبلغ، فكان الداعي إلى إثبات العقائد الحقة، والرد على المخالفين لها أمراً ضرورياً صيانة للإسلام ولعقائد المؤمنين.
وفي المقابل كان ظهور هذا العلم بظهور الفرق المبتدعة مظهراً من مظاهر الافتراق بين المسلمين، ومظهراً لظهور الانحرافات العقائدية الباطلة، مع عدم وجود أمثال ذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. مما جعل بعض العلماء يقف من علم الكلام موقف العداء وكأنه هو السبب في ظهور الفرق المبتدعة أو ظهور الإنحرافات العقائدية. وكثيراً ما ينخدع الإنسان بالاقتران الحاصل بين أمرين فلا يستطيع أن ينفك عنهما، وهذا غلط في الحكم. مع وجود نصوص عن كثير من السلف في ذم علم الكلام والنهي عن الخوض فيه. بالإضافة إلى زعم بعضهم بأن طريقة هذا العلم تقوم في غالبها على العقل ، وعلى طرق مبتدعة منقولة عن اليونان ومنطقهم الصوري الذي لا يتناسب مع لغة القرآن ولا أساليب الإسلام.
ومنا هنا اختلف العلماء في مشروعية علم الكلام على قولين:
أحدهما: نظر إلى أهمية علم الكلام وعظيم شرفه فقالوا بمشروعيته على أنه أصل العلوم الشرعية كافة ورئيسها وهذا ما ذهب إليه عامة العلماء( ). والآخر: نظر إلى ما ذكرناه أخيراً فقال بعدم مشروعيته. وهذا ما ذهب إليه بعض المحدثين( )، وابن تيمية( ) ومن وافقه من اتباعه( ). وهو القول الذي شاع بين الناس ويروج له في هذا الزمان.
وبناء على هذا الاختلاف فإنك لا تزال وأنت تقرأ في علم العقائد تجد نصوصاً عن بعضهم في ذم علم الكلام، وفي المقابل تجد نصوصاً كثيرة في شرف هذا العلم وأهمية الاشتغال به. وهذا يعني أن هناك جوانب تقتضي ذم علم الكلام وليس هذا على الإطلاق، كما أن هناك جوانب تفيد شرف هذا العلم وليس هذا على الإطلاق. والتحقيق في ذلك أن الذم الوارد إنما هو عن كلام المبتدعة. وأما المدح فهو واقع على كلام أهل الحق المشتغلين بصيانة عقائد الإسلام والمسلمين مما أثارته هذه الفرق الضالة. فإنه لا يخفى على ذي فهم أنه لا يصح لأحد أن يقول: علم الكلام محمود مطلقاً ليشمل مدحه هذا أهل الأهواء والبدع. كما لا يصح لأحد أن يقول علم الكلام مذموم مطلقاً حتى يكون الذم شاملاً لكلام أهل الحق.
ومن هنا فإن الراجح لدينا أن علم الكلام هو أشرف العلوم الشرعية على الإطلاق وأهمها بلا منازع فهو أصل الدين وأساس دعوة الأنبياء والمرسلين. ولكن إذا أطلقنا "علم الكلام" فإنما نقصد به علم الكلام على طريقته المعتبرة، الذي يقرر العقائد الإسلامية الحقة ويستند في ذلك إلى الأدلة وطرق الاستدلال التي تثبت بالكتاب والسنة. وبالمقابل فإن علم الكلام المحرم هو الذي يكون مبنياً على قواعد فاسدة أو مؤدٍ إلى عقائد باطلة ليكون الذم وارداً على كلام أهل البدع والأهواء خاصة.
أما كون علم الكلام مظهراً من مظاهر الاختلاف بين المسلمين وظهورالبدع والانحرافات العقائدية فنقول: هذا الكلام لا يقتضي ذم علم الكلام على إطلاقه. وذلك لأن الاختلاف واقع لا محالة( ) وقد أخبر عنه الرسول الكريم في أحاديث كثرة كما في قوله – صلى الله عليه وسلم – "ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: ومن هم؟ قال: الذي هم على ما أنا عليه وأصحابي".
ولكن وقوع هذا الاختلاف لا يمنع أن تكون هناك فرقة ناجية. بل الحق أنه لا بد وأن تكون هناك فرقة ناجية مصيبة في جميع عقائدها دون بقية الفرق الأخرى، بمعنى أن الحق من القضيتين المتقابلتين لا بد وأن يكون في فرقة واحدة دون ما عداها من الفرق فههنا أصلان أحدهما: أن الحق في كل مسألة عقلية واحد. والآخر: أن هذا الحق في جميع المسائل يجب أن يكون في فرقة واحدة وأن تلك الفرق إنما تختلف عنها في هذا الأصل( ).
أما إن الحق في كل مسألة عقلية واحد فلأن القضيتين المتقابلتين لا يمكن أن يجتمعا في الصدق والكذب؛ لأن هذا جمع بين النقيضين فيجب أن يكون الحق واحداً.
أما إن الحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة فمعلوم من النقل وليس من إطلاق العقل( ) ومن الأدلة النقلية على ذلك قوله تعالى: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) ( ). وقوله – صلى الله عليه وسلم – "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة". وقوله – صلى الله عليه وسلم – "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة ". وقوله – صلى الله عليه وسلم - : "لا تجتمع أمتي على ضلالة" ، بل إن هذا المعنى متواتر تواتراً معنوياً بأحاديث ونصوص كثيرة. وبالمقابل فإنه ليس من التحكم حصر الحق في فرقة واحدة بعد إخبار الشرع وبعد معرفة أن الحق يجب أن يكون متعيناً ليصح التكليف به ولا يكون كذلك إلا إن كان في فرقة واحدة.
وإذا علم أن الحق في كل مسألة مع فرقة واحدة وعلم أن الحق يجب أن يكون في فرقة واحدة دون ما عداها من الفرق مع إدعاء الجميع بأنهم على الحق دون ما عداهم. كانت الحاجة إلى هذا العلم ضرورية لبيان معتقد الفرقة الناجية وتأييدها بالأدلة التي تؤكد حقيقتها. مع الرد على الفرق الضالة وبيان زيفها. ويؤكد هذا المعنى ما ذكره الإمام السبكي في السيف الصقيل بقوله: "لهذا كان الشافعي رضي الله عنه ينهى عن الاشتغال بعلم الكلام ويأمر بالفقه فهو طريق السلام. ولو بقي الناس على ما كانوا عليه زمن الصحابة كان الأولى للعلماء تجنب النظر في علم الكلام لكن حدثت بدع أوجبت للعلماء النظر فيه لمقاومة المبتدعة ودفع شبههم حذراً من أن تزيغ بها قلوب المهتدين" ( ). وهذا بناء على أن فائدة علم الكلام منحصرة في حفظ عقائد المسلمين من دعاوي المبتدعة والمبطلين، والحق أن أهمية علم الكلام وفائدته لا تنحصر عند ذلك بل هو أصل للعلوم الشرعية، وهو الذي يعطي التصور الشامل لهذا الدين ويعين مشخصاته – كما ذكرنا سابقاً-
--------------------------------------------------------------------------------
احمد حلمي حرب23-06-2004, 00:28
أما بالنسبة إلى الروايات المنقولة عن بعض السلف في ذم علم الكلام والمتكلمين، فإنها لا تعارض ما رجحناه هنا، لأن الذم لا يصح أن يكون على إطلاقه ليكون شاملاً لكلام أهل الحق. فكما لا يصح لأحد أن يفهم من نصوص العلماء الواردة في مدح علم الكلام أنها مدح لعلم الكلام على عمومه حتى يشمل بالإضافة إلى أهل الحق كلام أهل الأهواء والبدع. فكذلك العكس لا يصح لأحد أن يفهم من النصوص الواردة في ذم علم الكلام أنها ذم له على إطلاقه حتى يشمل بالإضافة إلى كلام أهل الأهواء والبدع كلام أهل الحق. وهذا بالإجماع وقد نقل الإجماع على هذا الفهم الإمام الإخميميحيث قال : "وأما ذم الشافعي وغيره الكلام فمرادهم بعلم الكلام بإجماع المسلمين هو الكلام النافي عن الله ما علم ثبوته بكتابه عز وجل أو بسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – أو بإجماع أمته أو بدليل عقلي تنتهي مقدماته إلى الضروريات. أو أثبت لله ما لم يعلم بواحد من الطرق الأربعة" ( ).
ولكن ما يؤسف له بحق أنك تجد أُناساً يعتمدون على سرد مثل هذه النصوص في صرف الناس عن علم الكلام عموماً ونهيهم عن الخوض فيه مطلقاً. وهذا لا يصح بحال، فإن هذه النصوص ليس فيها دلالة على ما يقولون وهذا منهم تساهل في الحكم وتسرع في التعميم وهذه ليست طريقة المسلمين التي تعتمد العدالة والإنصاف وتحمل المسؤولية. ومن هنا كان لزاماً علينا مراجعة أقوال العلماء وجمع نصوصهم لتعرف حقيقة مقصودهم وأنه لا يصح الاعتماد عليها إلا عند بسطاء الناس وعوامهم وإليك بعض النقول عن العلماء في ذم علم الكلام( ).
من ذلك ما نقل عن الشعبي وأبي يوسف وروي عن مالك: "من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن حدث بغرائب الحديث كذب". وقال الإمام الشافعي: "صاحب الكلام لا يفلح" وقال أيضاً : "لأن يبتلى المرء بكل ما نهي عنه سوى الشرك خير له من الكلام. ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله". وقال أيضاً: "لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد". وقال: "رأيي في أهله بأن يضربوا بالجريد، وأن يطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء من ترك كتاب الله والسنة".
هذه بعض النصوص وهناك نصوص أخرى ليس المقصود تتبعها ولا المناقشة في صحتها جميعاً ولكن المقصود ثبوت أصلها أي ثبوت أن هناك من ذم علم الكلام لمحاولة فهم المراد من هذا الذم من ناحية، ومن ناحية ثانية بيان كيفية التعامل الصحيح مع مثل هذه النصوص. عن طريق هذا البعض منها.
فالذي نص عليه العلماء من المتقدمين والمتأخرين والذي يفهم مما سبق أن الذم إنما هو عن كلام أهل الأهواء والبدع خصوصاً( ). أو أن الذم وارد على من يقتصر على الكلام فقط دون الفقه والعمل( ). وبيان ذلك:
أن الذم يستحيل أن يكون وارداً على طريقة المتكلمين( ). لأن الطريقة ما هي إلا الأخذ بالأدلة والنقاش والجدال في العقيدة. وهذا الأمر أي النظر في العقيدة ليس محل ذم ليكون الذم وارداً عليه في نفسه إلا أن يكون مبنياً على قواعد فاسدة أو مؤدٍ إلى عقائد باطلة، كما قررناه وأوضحناه في أول المسألة. أما أنه يستحيل أن يكون الذم وارداً على الطريقة فلأن كبار العلماء الذين ذموا الكلام خاضوا في العقيدة بالنظر والنقاش والرد على الخصوم، فلو كان الذم وارداً على الطريقة نفسها لكانوا قد دخلوا فيما نهوا عنه وهذا مما يجل عنه أمثال هؤلاء العلماء وما هم عليه من الإمامة والإتباع. فقد ناظر الإمام الشافعي حفصاً الفرد في خلق القرآن، وقال: "قد أحكمنا ذلك قبل هذا" ( )، أي الكلام قبل الفقه، وقال: "ما ناظرت أحداً احببت أن يخطئ إلا صاحب بدعة فإني أحب أن ينكشف أمره للناس". وذكر للحميدي أحسن ما يحتج به على أهل الإرجاء وذكر لابن هرم ما يحتج به على من أنكر الرؤية( ). وأبو يوسف كان من المتكلمين المبرزين على يد إمامه الإمام أبي حنيفة الذي كان إماماً في العقيدة وأصول الدين كما كان إماماً في الفقه( ). ففي التبصرة البغدادية : إن أول متكلمي أهل السنة من الفقهاء أبو حنيفة ألف فيه الفقه الأكبر والرسالة في نصرة أهل السنة وقد ناظر فرق الخوارج والشيعة والقدرية والدهرية وكان معظم دعاتهم في البصرة فسافر إليها نيفاً وعشرين مرة وقصمهم بالأدلة الباهرة وبلغ في الكلام إلى أن كان يشار إليه بين الأنام واقتفى به تلامذته الأعلام( ).
ويؤكد أن الذم إنما هو لكلام أهل البدع والأهواء من القدرية والمرجئة والجهمية وغيرها أنهم كانوا في القديم إنما يَعرِفون بالكلام أهل الأهواء أما أهل السنة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يسمون بتسميتهم( ). وهذا كلام نفيس وتحقيق دقيق وذلك أن الذم يتوجه على ما كان سائداً في زمانه وما كان سائداً في زمنهم إطلاق "الكلام" على أهل البدع، وقليل من أهل السنة من كان يخوض معهم في خوضهم إلا بقدر الكفاية فهو ليس ذماً لعلم الكلام عموماً بل للكلام السائد في زمانهم وهو كلام أهل البدع. أما بعد ذلك أي بعد خوض أهل السنة فيه وجدالهم المخالفين والرد على المعتزلة والقدرية والجبرية وبعد أن أصبح اسم الكلام والمتكلمين يتناولهم لم يعد الذم على إطلاقه بل لا بد وأن يقيد بما أراده العلماء السابقون. وفي ذلك يقول ابن حجر الهيتمي: "حمل الذم البليغ والزجر الأكيد وما يؤدي الخوض فيه إلى زيغ أو ارتكاب شبهة لا مخلص له فيها وغير ذلك من المفاسد التي كانت من أهله في زمان أولئك الأئمة وأما بعدهم فقد تميز أهل السنة من أهل البدع وحرروا كتبهم فيه واجتهدوا في قمع البدع فلا مساغ في ذمه بل هو أكبر فروض الكفايات" ( ).
أما الأمر الثاني الذي يحمل عليه الذم الوارد عن العلماء فعلى من يقتصر على علم الكلام ويترك تعلم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام ويرفض العمل بما أمر بفعله من شرائع الإسلام ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهي عنه من الأحكام.
ومن خلال هذا التأصيل لنحاول أن نفهم حقيقة المراد من تلك النقول التي نقلناها هنا:
فأما كلام أبي يوسف والشعبي وما روي عن مالك: "من طلب العلم بالكلام تزندق" فإنما يريدون بالكلام كلام أهل الأهواء، فإن في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، وتحتمل وجهاً آخر، وهو أن يكون المراد بها أن يقتصر على الكلام فحسب، ففي التبيين عن حاتم بن عنوان الأصم وكان من أفاضل الزهاد وأهل العلم أنه قال: "الكلام أصل الدين والفقه فرعه والعمل ثمرته. فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسق، ومن تفنن في الأبواب كلها تخلص"( ).
وأما النصوص المنقولة عن الشافعي فكلها تحمل على الكلام البدعي المخالف فقد نص كثير من الرواة أنه أراد بالنهي عن الكلام قوماً تكلموا في القدر. ويدل عليه ما حكاه ابن عساكر عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال: جئت الشافعي بعدما كلم حفصاً الفرد، فقال غبت عنا يا أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط، ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام. فالشافعي - رحمه الله - إنما أراد به كلام حفص الفرد القدري وأمثاله( ). وفي رواية يونس بن عبد الأعلى أنه قال في آخرها يعني الأهواء. وفي رواية الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء. وفي رواية أخرى عن الربيع أنه قال سمعت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله يقول: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء وذلك أنه رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه فقال الشافعي: في كتاب الله المشيئة له دون خلقه والمشيئة إرادة الله قال الله تعالى "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" ( ) فأعلم عز وجل أن المشيئة له وكان يثبت القدر( ).
أما قوله: إن صاحب الكلام لا يفلح فإنما أراد أن صاحب الكلام لا يفلح في غالب مظنونه إذا لم يتعلم من علم الفقه ما يصلح به أمر دينه، كما أراد الزنجي - وهو من مشايخ الشافعي - بقوله له حين رآه ينظر في جزء معه يشتمل على حديث كما حكاه المزني قال: سمعت الشافعي يقول: "مر بي مسلم بن خالد وأنا انظر في كتاب فقال ما هذا يا أبا عبد الله ؟ قلت: حديث. قال : ليس تفلح أبداً" وإنما أراد مسلم الزنجي أن صاحب الحديث إذا كان يسمعه أو يرويه وهو لا يعرف ناسخه من منسوخه ولا يقف على معانيه لعدم معرفته بأمر دينه والفقه فهو بعيد من الفلاح فيما يذره منه أو يأتيه( ).
أما القول بأن هذه الطريقة من الخوض في العقائد مرفوضة لأنها مخالفة لما كان عليه السلف الصالح. فغير صحيح، وذلك أن السلف رضي الله عنهم لم ينهوا أو يحرموا الخوض في العقيدة وإثباتها على المخالف، بل غاية أمرهم أن هذه الطريقة – أي الخوض في العقائد بهذا الشكل – لم تكن منتشرة بينهم بحيث تكون سمة لهم ولم يتركوها مطلقاً بحيث تكون مخالفة لهم ومبتدعة في أزمان جاءت بعدهم. وما قلة الخوض في العقيدة عندهم إلا لصفاء عقائدهم ببركة صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، وقلة الأهواء والبدع بينهم فلم يكونوا بحاجة إلى التكلف في الخوض في مسائل العقيدة لعدم الحاجة إلى ذلك( )، فقد كان حرز الدين محفوظاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتجاسر عليه من يروم الاختلاس منه( ). ولكن في آخر عهدهم - رضي الله عنهم - خاصة لما وجدت الحاجة إلى ذلك لم يمتنعوا ولم يتحرجوا من الخوض فيها والرد على المخالفين لها دفاعاً عن الإسلام وعقائد المؤمنين( ).
ففي إشارات المرام: " بل تركوا التوغل فيه فإنه لما ظهر في أواسط عصرهم أوائل أهل البدع من الخوارج والقدرية كشف فقهاء الصحابة عن شبههم بالحجج الساطعة وبينوا العقائد الحقة بالبراهين القاطعة وسحقوا مادة الأهواء واستأصلوا المصرين المنحرفين بالإفناء فإن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه كشف عن شبهة الخوارج في مسألة التحكيم والوعد الوعيد وحاجهم فيه كما في التبصرة البغدادية… وكذلك ابنه الحسن رضي الله عنه وله رسالة في رد القدرية كما في أوائل شرح المشكاة للشيخ علي القاري وكذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في التبصرة، وعبد الله بن عباس في مناظرته مع الفريقين حتى قال: كلام القدرية كفر وكلام الحرورية ضلال وكلام الشيعة هلاك كما في سير التتارخانية وناظر أبو موسى من قال: كيف يُقَدِّر عليَّ شيئاً ثم يعذبني عليه؟ حيث قال قَدَّر حيث علم وعَذَّب حيث لم يظلم" ( )
أما كون المتأخرين يكثرون من الأدلة العقلية، والنقاش القائم على الأصول المنطقية في المسائل العقائدية، في حين أن الطريقة عند المتقدمين كانت في فهم النصوص، والأدلة عندهم كانت في غالبها نقلية. فليس ذلك إلا لأن الخلاف عند المتقدمين كان مع أناس يؤمنون بالكتاب والسنة وينتسبون إلى الإسلام ويؤكدون مذاهبهم بنصوص شرعية. فكان النقاش معهم في بيان بطلان مذاهبهم لمخالفة ظواهر الكتاب والسنة ومخالفة ما جرى عليه جماعة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. ولما نقلت الفلسفة إلى العربية وخاض فيها الإسلاميون، وكان لهم من الأقوال التي خالفوا فيها الإسلام وما هو معلوم منه مع شيوع أقوالهم وشبههم بين المؤمنين تصدوا للرد عليهم بالأدلة التي تناسب حالهم. وهذا الحال يتكرر في كل زمان فإن الصراع الفكري والعقائدي موجود دائماً وقد يكون بين المسلمين أنفسهم وقد يكون بين المسلمين وغيرهم. ولا ينكر أحد أن الأدلة التي تناسب الذي يؤمن بالكتاب والسنة في مسائل شرعية هي الأدلة الشرعية من النصوص وكيفية فهمها. أما الذي لا يؤمن بالله أو يُحكِّم العقل ولا يلتفت إلى الشرع ابتداءً يناسبه الدليل العقلي الذي يتمشى مع الأصول الصحيحة بشرط أن يكون معتداً به شرعاً مأخوذاً من الأصول الإسلامية المقررة. وهذا لا حرج فيه بل الواجب متعين فيه على ما نص عليه العلماء قديماً وحديثاً. بل إن القرآن في خطابه للكافرين لا يعتمد إلا هذه الطريقة في إقامة الأدلة على إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به – كما وضحناه في أول المسألة-
أما الألفاظ المستحدثة في هذا العلم من نحو: الجوهر والعرض والدور والتسلسل والوجوب والجواز والاستحالة والتحسين والتقبيح، وغير ذلك من الاصطلاحات الغريبة التي لم يعهدها الصحابة رضي الله عنهم، فليس فيها أمر محذور ولا في استعمالها ما يوجب المخالفة المبتدعة. إذ ما من علم إلا وقد حدثت فيه اصطلاحات بأوضاع جديدة لأجل التفهيم، كما في الحديث والتفسير والفقه وسائر العلوم. فلو عرض على الصحابة – رضي الله عنهم – عبارة النقض والكسر والتركيب والتعدية وفساد الوضع إلى جميع الأسئلة التي تورد على القياس لما كانوا يفهمون المراد منها لعدم الاستعمال بالنسبة إليهم. وبالتالي فإن الخلف الذين استعملوا هذه الألفاظ ووضعوها لمعانٍ صحيحة لم يكونوا مبتدعة بهذا التطوير الاصطلاحي، وبالمقابل فإن عدم وجودها في زمانهم لم يكن نقصاً في حقهم( ). فإن التطور في العلوم من حيث التدوين والترتيب والاصطلاح والتأصيل وغير ذلك لا ينكره عاقل، فكيف ينكر في حق علم الكلام تحكماً مع وقوع مثله أو أكثر منه في سائر العلوم الشرعية وغير الشرعية.
أما الاستدلال بالأدلة المعروفة فيه من دليل حدوث العالم على وجود الصانع، ودليل التمانع على وحدانيته تعالى، ودليل الإمكان على جواز الرؤية والأمور الغيبية، وغيرها من الأدلة. فإنها أدلة صحيحة في نفسها ليست بخارجة عن أدلة القرآن، لا يقصد منها إلا إثبات العقائد الحقة بالأدلة القطعية بما يكون حجة على المخالف( ).
والدليل ما يلزم من العلم به العلم بالمدلول، كما يلزم من العلم بحدوث العالم العلم بوجود محدثه وخالقه. والعلم بحدوث العالم لا بد له من دليل، وهذا الدليل لا يعتبر حجة إلا إن كان قطعياً. والدليل القاطع على حدوث العالم يكون إما بالاستقراء بأن تستدل على حدوث أفراد العالم فرداً فرداً. أو تستدل على حدوث جميع أجزاء العالم بدليل واحد بأن تحصر العالم في أجزاء معينة ثم تثبت حدوث العالم بحدوث هذه الأجزاء التي يتشكل منها العالم.
والعالم( ) بما فيه لا يخرج عن كونه إما أجساماً أو أعراضاً تقوم بالأجسام. فالجسم كل ما يأخذ قدراً من الفراغ أي كل ما يكون له حجم ويكون له تحيز بذاته( ) كالقلم والكرسي والأرض والشجر والبحر وهكذا. أما الأعراض فهي التي تقوم بالأجسام ولا توجد منفكة عنها( ) كالحركة والسكون واللون والحياة والعلم وغير ذلك مما توصف به الأجسام. ولا يوجد قسم آخر.
وهذا الحصر موجود قطعاً، والاستقراء ممكن لكثير من الأجزاء التي يطلع عليها الإنسان وإن أدلة الإستقراء ترجع في أصلها إلى أن الحادث لا بد له من محدث، أي ترجع إلى إثبات أن وجود السماوات والأرض وما فيها من مخلوقات كلها أمور ممكنة ليست بواجبة؛ أي أن وجودها على هذه الأحوال ليس لذاتها بل يمكن أن تكون كما هي الآن ويمكن أن تكون على حال أخرى، فالأرض يمكن أن تكون أكبر ويمكن أن تكون أصغر. والقمر يمكن أن يكون أقرب إلى الأرض ويمكن أن يكون أبعد، ونسبة الأوكسجين في الجو يمكن أن تكون أكثر ويمكن أن تكون أقل، ويمكن أن تكون الأرض خالية من عنصر الحديد كما ويمكن أن تكون حركة النجوم عشوائية وغير ذلك.
فوجود العالم على هذا الحال وهذا الانتظام بما فيه من إبداع وتناسق عجيب، مع إمكان أن لا يكون كذلك يقتضي ضرورة أن له مخصصاً أراده أن يكون هكذا دون بقية الأحوال الممكنة. وهكذا يستدل بكل جزء من أفراد العالم على وجود خالقه من حيث إنه ممكن والممكن لا بد له من مرجح.
فالبحث عن الإمكان، والتنبيه على وجه افتقار الممكن إلى المحدث. وإبطال الترجيح بلا مرجح وغير ذلك من المباحث هي مباحث في علم الكلام. فإنه يبحث في علم الكلام عن القواعد الكبرى التي تحكم جميع الاستدلالات الجزئية غير المتناهية. وبالتالي فإنه يقعِّد لكيفية الاستدلال بالأدلة القرآنية، والعجائب الكونية والمكتشفات العلمية على المباحث العقائدية بما لا يبقي لمخالفٍ شبهة.
وإذا عرفت ذلك تعرف أهمية علم الكلام في أول مبحث من مباحثه وهو الإمكان فكيف في بقية مباحثه وأصوله. وإذا علم ذلك فإنه لا يعيب علم الكلام إلا جاهل؛ أي جاهل بطريقته وبقواعده فإنه لا يعيب علم الكلام لصعوبته إلا جاهل، فإن العلوم كافة فيها صعوبة وتحتاج إلى دقة نظر وبحث عميق وطول طلب. فكيف بهذا العلم الذي هو أساس العلوم الشرعية وأدقها ويبحث في أخطر القضايا وأهمها. فإن زعم أن الأدلة الكونية أسهل وأقرب إلى العوام. قلنا: هذا مسلَّم، ولكن من قال إن هذا العلم موضوع للعوام( ). ومن ثم كيف يصح الاستدلال بهذه الأدلة الكونية وغيرها من غير معرفة وجه الاستدلال بها من معرفة مفهوم الإمكان والفرق بينه وبين الوجوب والاستحالة، وإبطال الترجيح بلا مرجح، وإبطال الدور والتسلسل وغيرها من المباحث التي لا تثبت إلا بهذا العلم. وبالمقابل كيف يعرف –هذا الزاعم – الأدلة على إثبات المباحث العقائدية المختلفة من الوحدانية ووجوب القدم في حقه تعالى، وإثبات الرسالة وصدق الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإثبات القضايا الغيبية وغيرها من المباحث من غير إحاطة تامة بهذا العلم.
أما بالنسبة إلى الطريقة الثانية من الاستدلال على أن العالم بجميع أجزائه مخلوق بدليل واحد فبإثبات أنه إما أجسام أو أعراض وأن كلاً منهما حادث فيثبت أن العالم حادث قطعاً وهو الدليل المعروف "بدليل حدوث العالم".
فإذا ثبت بهذا الدليل القاطع أن العالم مخلوق ثبت قطعاً أنه مفتقر إلى خالق وأن هذا الخالق لا يجوز أن يكون من جنس العالم أي لا يجوز أن يكون جسماً أو عرضاً كما ولا يجوز أن يكون موصوفاً بصفة من صفات الحدوث والنقصان، وإلا كان مخلوقاً مثلها والخالق لا يكون مخلوقاً، وهذا معنى قوله تعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ( ) وقوله تعالى: "ولم يكن له كفواً أحد" ( ). يقول الإمام النسفي في علة تسمية العالم –وهو كل موجود سوى الخالق تعالى – بهذا الإسم : "سمي عالماً لكونه عَلماً على ثبوت صانع له حي سميع بصير عليم قدير خارج عن حكمه متعال عما فيه من سمات الحدوث وأمارات النقصان غير مشابه لشيء من أقسامه ولا مماثل لجزء من أجزائه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ( ).
وبهذا يعلم أن الانتقال من حدوث العالم لأنه أجسام وأعراض إلى أن الخالق يستحيل أن يكون جسماً أو عرضاً انتقال صحيح موافق لصحيح المعقول وصريح المنقول وأنه لا يخالف في ذلك عاقل إلا أن يكون مجسماً يعتقد أن ربه جسماً من الأجسام، وهذا اعتقاد فاسد قطعاً( ).
ومن هنا يعلم أنه لا تعارض بين صحيح المعقول وصريح المنقول. وبالتالي فإن ما يذكره المتكلمون من تقسيم العالم إلى أجسام وأعراض وأن الشيء إما أن يكون واجباً أو ممكناً أو مستحيلاً، وأن الواجب لا يقبل العدم والمستحيل لا يقبل الوجود وأن الممكن يقبل أياً منهما. وأن العالم ممكن يستند في وجوده إلى الواجب وأن إمكانه يرجع إلى كونه جسماً أو عرضاً فيحتاج إلى الخالق. وأن الخالق يستحيل أن يكون كذلك وغيرها من التفريعات كلها صحيحة موافقة للعقائد الحقة. ومن هنا فإن هذا العلم يعطي الفهم الكامل والتصور الشامل للعقيدة الإسلامية فتكون كلها مترابطة ومتماسكة في سلك واحد لا يشذ عنها مسألة – صغيرة كانت أو كبيرة – لا عن حكم العقل ولا عن حكم النقل.
وبهذا الكلام نكون قد وقفنا على تصور تفصيلي لهذا العلم الجليل، مع التركيز على بعض النقاط التي ثار حولها الجدل، أو تلك التي كثر فيها الخطأ، بما لا يبقى لأحد سبب للرفض النفسي لهذا العلم بعد هذا الفهم العلمي. ولعل القارئ لهذا الكلام المختصر لا يبقى في نفسه شك في أهمية علم الكلام فضلاً عن مشروعيته، كيف وهو كما قال الإمام التفتازاني: "وبالجملة هو أشرف العلوم لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية، وكون معلوماته العقائد الإسلامية وغايته الفوز بالسعادات الدينية والدنيوية وبراهينه الحجج القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية."( )
[b]