المشرف وسام النجوم الذهبية
عدد المساهمات : 215 نقاط : 6045 تاريخ التسجيل : 26/12/2009
| موضوع: محاربة الفساد المائدة 35-36 الأحد فبراير 28, 2010 2:09 am | |
| 8) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم.سبب النزول اختلف فيمن نزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فعرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم. عن ابن عباس، قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض؛ فخير الله رسوله، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركينعن عكرمة والحسن البصري، قالا: قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} إلى: {إن الله غفور رحيم} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل؛ وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب. وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عرينة وعكل ارتدوا عن الإسلام، وحاربوا الله ورسوله. عن أنس: أن رهطا من عكل وعرينة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف وإنا استوخمنا المدينة. فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا. فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله}التفسير من تفسير الطبري قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم الفساد في الأرض الذي ذكره في قوله: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض} أعلم عباده ما الذي يستحق المفسد في الأرض من العقوبة والنكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتل والصلب وقطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الأرض، خزيا لهم؛ وأما فى الآخرة إن لم يتب في الدنيا فعذاب عظيم عن السدي: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: أنزلت في سودان عرينة، قال: أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماء الأصفر، فشكوا ذلك وأبوالها " . فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى إذا صحوا وبرؤوا، قتلوا الرعاة واستاقوا إليه، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فقال: "اشربوا من ألبانها الإبل.وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم معرفة حكمه على من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعلوإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن القصص التي قصها الله جل وعز قبل هذه الآية وبعدها من قصص بنى إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسطا منه يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم، أولى وأحق. وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو سعى بفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون، يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلو النفوس بغير نفس وغير سعي في الأرض بالفساد حربا لله ولرسوله، فمن فعل ذلك منهم يا محمد، فإنما جزاؤه أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده، ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين؟ قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد، والذين عنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمي وملي، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس أن يكون صحيحا نزولها فيمن نزلت فيه.وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية، أعني بقوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا...} الآية، وقالوا: أنزلت هذه الآية عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعرنيين.وقال بعضهم: بل فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين حكم ثابت في نظرائهم أبدا، لم ينسخ ولم يبدل. وقوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} الآية، حكم من الله فيمن حارب وسعى في الأرض فسادا بالحرابة. قالوا: والعرنيون ارتدوا وقتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام والذمة.وقال آخرون: لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين، ولكنه كان أراد أن يسمل، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم يعرفه الحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم. ذكر القائلين ما وصفنا: حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك، وعلمه عقوبة. مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو، فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم من حارب بعدهم فرفع عنهم عن السدي، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم - يعني العرنيين - فأراد أن يسمل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه
واختلف أهل العلم في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذى يلزمه حكم هذه، فقال بعضهم: هو اللص الذي يقطع الطريق عن قتادة، عن عطاء الخراساني في قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا...} الآية، قالا: هذا هو اللص الذي يقطع الطريق، فهو محارب.وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته، المكابر في المصر وغيره. ومن قال ذلك الأوزاعي. ، وعن مالك والليث بن سعد وابن لهيعة. قال الوليد: وأخبرني مالك أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغيلة؟ قال: هو الرجل يخدع الرجل والصبي، فيدخله بيتا أو يخلو به فيقتله ويأخذ ماله، فالإمام ولي قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قود ولا قصاص.وهو قول الشافعي..وقال آخرون: المحارب: هو قاطع الطريق؛ فأما المكابر في الأمصار فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين. ومن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. عن مجاهد في قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: الزنا والسرقة، وقتل الناس، وإهلاك الحرث والنسل. ، عن مجاهد: {ويسعون في الأرض فسادا} قال: الفساد: القتل، والزنا، والسرقة.وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: المحارب لله ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربا للمسلمين على الظلم منه لهم أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم مناصب حربا ظلما. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم أو في سبلهم وطرقهم في أنه لله ولرسوله محارب بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه.
.القول في تأويل قوله تعالى: {ويسعون في الأرض فسادا} فإنه يعني: يعملون في أرض الله بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين به، أو سبل ذمتهم وقطع طرقهم، وأخذ أموالهم ظلما وعدوانا، والتوثب على حرمهم فجورا وفسوقا.
.القول في تأويل قوله تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} يقول تعالى ذكره: ما للذي حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه.ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال أتلزم المحارب باستحقاقه اسم المحاربة، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه مختلفا باختلاف أجرامه؟ فقال بعضهم: يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه، مختلفا باختلاف أجرامه عن ابن عباس، قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: إذا حارب فقتل، فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقتل، فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النفي. عن الحسن: {إنما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله...} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: إذا أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي. عن قتادة، أنه كان يقول في قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} حدود أربعة أنزلها الله. فأما من أصاب الدم والمال جميعا: صلب؛ وأما من أصاب الدم وكف عن المال: قتل؛ ومن أصاب المال وكف عن الدم: قطع؛ ومن لم يصب شيئا من هذا: نفي. عن السدي. قال: نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يسمل أعين العرنيين الذين أغاروا على لقاحه، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه. فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل فقطع يده ورجله من خلاف، يده اليمنى ورجله اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقتله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل فصلبه. وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريق المسلمين وقطع أن يصنع به إن أخذ وقد أخذ مالا قطعت يده بأخذه المال رجله بإخافة الطريق، وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل، وإن قتل وأخذ المال: صلب. عن سعيد بن جبير في هذه الآية: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قالا: إن أخاف المسلمين، فاقتطع المال، ولم يسفك: قطع؛ وإذا سفك دما: قتل وصلب؛ وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دما: قطع ثم قتل ثم صلب. كأن الصلب مثلة، وكأن القطع {السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ، وكأن القتل. النفس بالنفس. وإن امتنع فإن من الحق على الإمام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتى يأخذوه فيقيموا عليه حكم كتاب الله، أو ينفوا من الأرض من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله أوجب على القاتل القود، وعلى السارق القطع؛ وقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد إحصان فرجم، ورجل كفر بعد إسلامه " قالوا: فحظر النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث، فإما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا، فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال: الإمام فيه بالخيار إذا قتل وأخاف السبيل وأخذ المال؛ فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل أو القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف. وأما صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال، فذلك ما لم يقله عالم.وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار أن يفعل أي هذه الأشياء التي ذكرها الله في كتابه. عن الحسن في قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} إلى قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: يأخذ الإمام بأيهما أحب. قال عطاء: يصنع الإمام في ذلك ما شاء: إن شاء قتل، أو قطع، أو نفى، لقول الله: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} فذلك إلى الإمام الحاكم يصنع فيه ما شاء. ابن عباس، قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} الآية، قال: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله..وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا -أي الطبري-تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم، فأوجب على مخيف السبيل منهم إذا قدر عليه قبل التوبة وقبل أخذ مال أو قتل: النفي من الأرض؛ و إذا قدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلها: الصلب؛ لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة. فأما ما اعتل به القائلون: إن الإمام فيه بالخيار من أن "أو " في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فنقول: لا معنى له، لأن "أو " في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله. فأما في هذا الموضع فإن معناها: التعقيب، وذلك نظير قول القائل: إن جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في عليين، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين. فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه، بل المعقول عنه أن معناه: أن جزاء المؤمن لم يخلو عند الله من بعض هذه المنازل، فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة، والظالم لنفسه دونهما، وكل في الجنة كما قال جل ثناؤه: {جنات عدن يدخلونها} فكذلك معنى العطوف بأو في قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} الآية، إنما هو التعقيب. فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله، ويسعى في الأرض فسادا، لن يخلو من أن يستحق الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره، لا أن الإمام محكم فيه، ومخير في أمره كائنة ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خفت؛ لأن ذلك لو كان كذلك لكان للإمام قتل من شهر السلاح مخيفا السبيل وصلبه، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدا، وكان له نفي من قتل وأخذ المال وأخاف السبيل. وذلك قول إن قاله قائل خلاف ما صحت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل قتل رجلا فقتل، أو زنى بعد إحصان فرجم، أو ارتد عن دينه " وخلاف قوله: "القطع في ربع دينار فصاعدا " وغير المعروف من أحكامه.فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التي ذكرت كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به؟ قيل له: فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه، فإن ادعى عنه صلى الله عليه وسلم حكما خلاف الذي ذكرنا، أكذبه جميع أهل العلم، لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة، وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب. قيل له: فإن أحسن حالاتك أن يسلم لك أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت، وما قاله من خالفك فما برهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله. وبعد: فإذا كان الإمام مخيرا في الحكم على المحارب من أجل أن "أو " بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيا ويتركه على الخشبة مصلوبا حتى يموت من غير قتله؟ فإن قال: ذلك له، خالف في ذلك الأمة. وإن زعم أن ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه أو صلبه ثم قتله، ترك علته من أن الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن "أو " تأتي بمعنى التخيير، وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع ولم يكن له الخيار في الصلب وحده، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟ وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت وأبي ذلك حيث جعلته له، فرق من أصل أو قياس؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر. وذلك ما.9257 - حدثنا به علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: "من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فأصلبه " .وأما قوله: {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} فإنه يعني جل ثناؤه: أنه تقطع أيديهم مخالفا في قطعها قطع أرجلهم، وذلك أن تقطع أيمن أيديهم وأشمل أرجلهم، فذلك الخلاف بينهما في القطع. ولو كان مكان "من " في هذا الموضع "على " أو الباء، فقيل: أو تقطع أيديهم وأرجلهم خلاف أو بخلاف، لأديا عما أدت عنه "من " من المعنى.
واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، أو يهرب من دار الإسلام. عن السدي، قوله: {أو ينفوا من الأرض} قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرجال حتى يأخذهم، فيقيم فيهم الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين. عن ابن عباس: {أو ينفوا من الأرض} يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب.. عن الوليد، قال: قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد:. وكذلك يطلب المحارب المقيم على إسلامه، يضطره بطلبه من بلد إلى بلد حق يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين، أو أقصى جوار المسلمين، فإن هم طلبوه دخل دار الشرك؟ قالا: لا يضطر مسلم إلى ذلك. ، عن الضحاك: {أو ينفوا من الأرض} قال: أن يطلبوه حتى يعجزوا..وقال آخرون: معنى النفي في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها. ، عن سعيد بن جبير: {أو ينفوا من الأرض} قال: من أخاف سبيل المسلمين نفي من بلدة إلى غيره، لقول الله عز وجل: {أو ينفوا من الأرض} عن حبان بن شريح، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللصوص، ووصف له لصوصيتهم وحبسهم في السجون، قال: قال الله في كتابه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} ، وترك: {أو ينفوا من الأرض} فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر قول الله جل وعز: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} ، وتركت قول الله: {أو ينفوا من الأرض} ، فنبي أنت يا حبان ابن أم حبان! لا تحرك الأشياء عن مواضعها، أتجردت للقتل والصلب كأنك عبد بني عقيل من غير ما أشبهك به؟ إذا أتاك كتابي هذا فانفهم إلى شغب..وقال آخرون: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: الحبس، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه.وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب في قول من قال: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: هو نفيه من بلد إلى بلد غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى ظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه.وإنما قلت ذلك أولى الأقوال بالصحة، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب: القتل أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، بعد القدرة عليه لا في حال امتناعه؛ كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطلب نفيا له من الأرض، كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز وجل حدا له بعد القدرة عليه. وإذ كان كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها أو السجن. فإذ كان كذلك، فلا شك أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم ينف من الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض، كان معلوما أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بقعة منها عن سائرها، فيكون منفيا حينئذ عن جميعها، إلا ما لا سبيل إلى نفيه منه.
.القول فى تأويل قوله تعالى: {ذلك لهم خزي في الدنيا} يعني جل ثناؤه بقوله: {ذلك} هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا في الدنيا، من قتل، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف {لهم} يعني لهؤلاء المحاربين {خزي في الدنيا} يقول هو لهم شر وعار وذلة، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، يقال منه: أخزيت فلانا فخزي هو خزيا.وقوله: {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} يقول عز ذكره لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فلم يتوبوا من فعلهم ذلك، حتى هلكوا في الآخرة مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها عذاب عظيم، يعني: عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك إلا الذين تابوا من شركهم ومناصبتهم الحرب لله ولرسوله، والسعي في الأرض بالفساد بالإسلام، والدخول في إلإيمان من قبل قدرة المؤمنين عليهم، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي حملها الله جزاء لمن حاربه ورسوله وسعى في الأرض فسادا، من قتل، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف، أو نفي من الأرض، فلا تباعة قبله لأحد فيما كان أصاب في حال كفره وحربه المؤمنين في مال ولا دم ولا حرمة قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته عنه عقوبة ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين الله، وعلى الإمام إقامة الحد الذي أوجبه الله عليه وأخذه بحقوق الناس. الأرض...} إلى قوله: {فاعلموا أن الله غفور رحيم} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليس تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، ذلك يقام عليه الحد الذي أصاب. عن مجاهد: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} قال: هذا لأهل الشرك إذا فعلوا شيئا في شركهم، فإن الله غفور رحيم إذا تابوا وأسلموا. عن الضحاك، قال: كان قوم بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ميثاق، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا فى الأرض، فخير الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه قبل ذلك عن ابن عباس، قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} الآية، فذكر نحو قول الضحاك، إلا أنه قال: فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف. عن قتادة: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} قال: هذا لأهل الشرك إذا فعلوا شيئا من هذا في شركهم ثم تابوا وأسلموا، فإن الله غفور رحيم. عن عطاء الخراساني وقتادة، أما قوله: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فهذه لأهل الشرك، فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب، فأخذ مالا أو أصاب دما ثم تاب قبل أن تقدروا عليه، أهدر عنه ما مضى.وقال آخرون: بل هذه الآية معني بالحكم بها المحاربون الله ورسوله الحراب من أهل الإسلام، من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه، ثم استأمن فأومن على جناياته التي جناها وهو للمسلمين حرب. ومن فعل ذلك منهم مرتدا عن الإسلام ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن فأومن؛ قالوا: فإذا أمنه الإمام على جناياته التي سلفت لم يكن قبله لأحد تبعة في دم ولا مال أصابه قبل توبته وقبل أمان الإمام إياه. عن عامر الشعبي: أن حارثة بن بدر خرج محاربا، فأخاف السبيل، وسفك الدم، وأخذ الأموال، ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته، وجعل له أمانا ممشورا على ما كان أصاب من دم أو مال. عن الشعبي: أن حارثة بن بدر حارب في عهد علي بن أبي طالب، فأتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما، فطلب إليه أن يستأمن له من علي، فأبى. ثم أتى ابن جعفر، فأبى عليه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمنه، وضمه إليه، وقال له: استأمن إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب! قال: فلما صلى علي الغداة، أتاه سعيد بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. قال: ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم. قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر! قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال: نعم. قال: فجاء به فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانا. عن السدي، قوله: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وتوبته من قبل أن يقدر عليه أن يكتب إلى الإمام يستأمنه على ما قتل وأفسد في الأرض: فإن لم يومني على ذلك ازددت فسادا وقتلا وأخذا للأموال أكثر مما فعلت ذلك قبل. فعلى الإمام من الحق أن يؤمنه على ذلك، فإذا أمنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام. فليس لأحد من الناس أن يتبعه ولا يأخذه بدم سفكه ولا مال أخذه، وكل مال كان له فهو له، لكيلا يقتل المؤمنين أيضا ويفسده. فإذا رجع إلى الله جل وعز فهو وليه يأخذه بما صنع. وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس، فإذا أخذه الإمام وقد تاب فيما يزعم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يؤمنه الإمام فليقم عليه الحد..وقال آخرون: معنى ذلك: كل من جاء تائبا من الحراب قبل القدرة عليه، استأمن الإمام فأمنه أو لم يستأمنه بعد أن يجيء مستسلما تاركا للحرب. عن عامر، قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمرة عثمان بعد ما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان ابن فلان المرادي، كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض، وإني تبت من قبل أن يقدر علي. فقام أبو موسى فقال: هذا فلان ابن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنه تاب قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج، فأدركه الله بذنوبه فقتله. وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير، قالا: إن جاء تائبا لم يقتطع مالا ولم يسفك دما ترك، فذلك الذي قال الله: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} يعني بذلك: أنه لم يسفك دما ولم يقتطع مالا.وقال آخرون: بل عنى بالاستثناء في ذلك التائب من حربه الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا، بعد لحاقه في حربه بدار الكفر؛ فأما إذا كانت حرابته وحربه وهو مقيم في دار الإسلام وداخل في غمار الأمة، فليست توبته واضعة عنه شيئا من حدود الله ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك. عن عروة قال: يقام عليه حد ما فر منه، ولا يجوز لأحد فيه أمان - يعني: الذي يصيب حدا - ثم يفر فيلحق الكفار، ثم يجيء تائبا.وقال آخرون: إن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام، وهو في غير منعة من فئة يلجأ إليها، ثم جاء تائبا قبل القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من حقوق الناس. وإن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام أو هو لاحق بدار الكفر، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه من أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبا قبل القدرة عليه، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحداثه في أيام حرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدا أو أمر الرفقة بما فيه عقوبة أو غرم لمسلم أو معاهد، وهو غير ملتجئ إلى فئة تمنعه، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبته. وقال آخرون تضع توبته عنه حد الله الذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم. وممن قال ذلك الشافعي، وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القدرة عليه، تضع عنه تبعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حربه وحرابته من حدود الله، وغرم لازم وقود وقصاص، إلا ما كان قائما في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيرد على أهله؛ لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة المتنعة المحاربة لله ولرسوله الساعية في الأرض فسادا على وجه الردة عن الإسلام، فكذلك حكم كل ممتنع سعى في الأرض فسادا، جماعة كانوا أو واحدا، فأما المستخفي بسرقته والمتلصص على وجه إغفال من سرقه، والشاهر السلاح في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه تاب أو لم يتب ماض، وبحقوق من أخذ ماله أو أصاب وليه بدم أو ختل مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله؛ قياسا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئا من ذلك وهو للمسلمين سلم ثم صار لهم حربا، أن حربه إياهم لن يضع عنه حقا لله عز ذكره ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعة منه. وفي قوله: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} دليل واضح لمن وفق لفهمه، أن الحكم الذي ذكره الله في المحاربين يجري في المسلمين والمعاهدين دون المشركين الذين قد نصبوا للمسلمين حربا. وذلك أن ذلك لو كان حكما في أهل الحرب من المشركين دون المسلمين ودون ذمتهم لوجب أو لا يسقط إسلامهم عنهم إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أن إسلام المشرك الحربي يضع عنه بعد قدرة المسلمين عليه ما كان واضعه عنه إسلامه قبل القدرة عليه، ما يدل على أن الصحيح من القول في ذلك من قال: عنى بآية المحاربين في هذا الموضع: حراب أهل الإسلام أو الذمة دون من سواهم من مشركي أهل الحرب.وأما قوله: {فاعلموا أن الله غفور رحيم} فإن معناه: فاعلموا أيها المؤمنون أن الله غير مؤاخذ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله الساعين في الأرض فسادا وغيرهم بذنوبه، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدنيا والآخرة، رحيم به في عفوه عنه وتركه عقوبته عليها. :shock: | |
|